تركيا تتخذ إجراءات حاسمة ضد الاحتلال- تداعيات و آفاق

في خطوةٍ تصعيدية تعكس استياءها العميق من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي العدوانية في قطاع غزة، اتخذت الحكومة التركية قرارات حاسمة، شملت تعليق جميع المعاملات التجارية مع الكيان المحتل، سواء كانت واردات أو صادرات، بالإضافة إلى إعلان انضمامها إلى الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، والتي تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. هذان القراران يمثلان منعطفًا هامًا في الموقف التركي تجاه إسرائيل، ويفتحان الباب أمام إمكانيات اتخاذ خطوات أخرى أكثر صرامة في المستقبل القريب.
عقوبات جديدة
خلال الشهور الأولى من العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وُجهت انتقادات للموقف التركي الرسمي، واعتُبر أقل من المتوقع والمأمول. كان من أبرز جوانب الانتقاد وجود فجوة كبيرة بين التصريحات والممارسات على أرض الواقع. ففي حين أدانت أنقرة، على لسان الرئيس أردوغان، أفعال قوات الاحتلال في غزة ووصفتها بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل وصلت إلى حد وصفها بالإبادة الجماعية وتوصيف إسرائيل بأنها دولة إرهابية، إلا أن أردوغان رفض قطع العلاقات الدبلوماسية معها، مؤكدًا أنه "ليس ثمة قطيعة دبلوماسية في العلاقات الدولية"، كما نفى وزير التجارة عمر بولات وجود أي نية لدى بلاده لقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل.
إلا أن الأسابيع القليلة الماضية شهدت تحولات جوهرية في الموقف الرسمي التركي، تمثلت في استقبال أردوغان رسميًا وعلنًا وفدًا رفيع المستوى من حركة حماس برئاسة إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة، بالإضافة إلى فرض قيود على تصدير 54 منتجًا وبضاعة إلى إسرائيل. هذه التطورات أشارت إلى تحول تدريجي في السياسة التركية تجاه إسرائيل.
وفي الأيام القليلة الماضية، اتخذت أنقرة قرارين جريئين رفعا سقف موقفها بشكل ملحوظ: الأول، الوقف الكامل للعلاقات التجارية مع دولة الاحتلال، والثاني، إعلان وزير الخارجية هاكان فيدان عزم بلاده الانضمام إلى الدعوى القضائية التي قدمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، بهدف تجريم إسرائيل لارتكابها جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. ورغم أن وزارة التجارة التركية ربطت استئناف العلاقات التجارية بـ "السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة بكميات كافية وبشكل مستمر"، إلا أن الوزير، وكذلك الرئيس أردوغان لاحقًا، أكدا أن عودة العلاقات التجارية مشروطة أيضًا بالتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، أي بإنهاء العدوان بشكل كامل ودائم.
يثير توقيت هذه القرارات الأخيرة تساؤلات مشروعة، إذ لم يشهد الوضع في غزة تغييرًا جذريًا خلال الأشهر الأخيرة يمكن اعتباره دافعًا رئيسيًا لاتخاذ هذه الخطوات، التي كانت ممكنة في أي وقت مضى. هذا الأمر، يدفع البعض للاعتقاد بأنها أتت متأخرة جدًا. كما أن هناك من يربط هذه القرارات بقرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وهو ما يجعلها قرارات اتُخذت في "الوقت بدل الضائع"، أي في اللحظات الأخيرة قبل انتهاء الأزمة.
نعتقد أن القرارات الأخيرة مدفوعة بشكل أساسي بثلاثة عوامل رئيسية ومترابطة:
- أولاً: الاستجابة المباشرة لرسائل الناخبين في الانتخابات المحلية الأخيرة، حيث كان الموقف الرسمي من العدوان على غزة أحد الأسباب التي أدت إلى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم. لذلك، جاءت جميع القرارات المذكورة بعد إعلان نتائج الانتخابات واعتراف أردوغان بأن ملف غزة كان من بين العوامل التي ساهمت في الخسارة.
- ثانيًا: اتضاح فشل الاحتلال الذريع في تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية في غزة بعد مرور سبعة أشهر كاملة من القصف والتدمير والقتل والحصار والتجويع، بل والإبادة الجماعية. هذا الفشل يعود بالفضل إلى صمود الشعب الفلسطيني في غزة، سواء المدنيين أو المقاومة، مما يعني فشل الرهان على خطط "ما بعد حماس" التي بشر بها الاحتلال طويلًا. هذا الواقع الجديد دفع العديد من الأطراف الدولية والإقليمية إلى تبني رؤية تقوم على استمرار حماس والمقاومة كقوة فاعلة في المشهد الغزي والفلسطيني بعد انتهاء العدوان.
- ثالثًا: التغيرات الطفيفة في الموقف الأمريكي من حكومة نتنياهو، والتي وإن لم تصل إلى حد ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل، إلا أنها تتضمن لهجة مختلفة فيما يتعلق بضرورة التوصل إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين في رفح وغيرها من المناطق، وذلك تحت ضغط من الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة والاحتجاجات الطلابية المتصاعدة في الجامعات الأمريكية. وبما أن صانع القرار التركي ينظر إلى العلاقات مع إسرائيل من منظور أمريكي، فإن هذا المتغير، على الرغم من محدوديته، يساهم في توفير هامش أكبر للمناورة والمرونة في الموقف التركي.
قرارات مهمة
تتجلى أهمية القرارات الأخيرة في عدة سياقات مترابطة، أولها: أنها تمثل إعلانًا رسميًا عن موقف واضح وتنفيذًا لعقوبات ملموسة على دولة الاحتلال، بسبب ارتكابها جريمة الإبادة وضربها عرض الحائط بكل الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، بما في ذلك قوانين الحروب. هذا الأمر يحمل دلالات سياسية ورمزية كبيرة، بغض النظر عن العوائد المادية المباشرة لهذه القرارات.
تزداد أهمية هذه القرارات بالنظر إلى أن متخذها هي تركيا، التي تعتبر قوة إقليمية صاعدة، وعضوًا فاعلاً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتمتلك علاقات واسعة مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية، فضلاً عن كونها شريكًا تجاريًا رئيسيًا لإسرائيل، حيث تقع ضمن قائمة أكبر عشرة شركاء تجاريين لها.
كما أن قرار وقف التعاملات التجارية سيكون له تداعيات مباشرة على اقتصاد الحرب الإسرائيلي، خاصة مع تأثيرات المقاطعة السلبية المتزايدة داخل إسرائيل، والتي كانت تعوض جزئيًا من خلال استمرار التجارة مع بعض الدول العربية (عبر الجسر البري) وتركيا وغيرها.
من جهة أخرى، يمثل قرار أنقرة الانضمام إلى دعوى الإبادة الجماعية تحولًا بارزًا، إذ كانت الجهود القانونية التركية تقتصر في السابق على تقديم بعض الشكاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي إجراءات ذات مسار طويل وغير مضمون، وبالتالي غير مؤثرة على مسار الحرب الحالية. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت بعض المؤسسات التركية، وعلى رأسها وكالة الأناضول، في توفير بعض الوثائق والمستندات التي استخدمت في دعم دعوى الإبادة.
الآن، وإذا ما وافقت محكمة العدل الدولية على طلب انضمام تركيا إلى الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا، وبما يدعم موقف الأخيرة، فإن أنقرة ستكون قد انتقلت من مجرد انتقاد بعض الشخصيات في الحكومة الإسرائيلية والإعلان عن النية في محاكمتهم (مثل نتنياهو)، إلى المشاركة الفعلية في محاكمة "دولة إسرائيل" بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. هذا يمثل مستوى مختلفًا تمامًا من المواجهة القانونية والسياسية. وأخيرًا، تعتبر تركيا أول دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي تعلن عن نيتها الانضمام إلى هذه الدعوى، وهو ما قد يشجع دولًا أخرى أعضاء في المنظمة على أن تحذو حذوها، مما يعزز موقف جنوب أفريقيا ويدعم قضيتها بشكل كبير.
إلى أين؟
أشار وزير التجارة التركي في تصريحات سابقة إلى أن الميزان التجاري مع إسرائيل يميل لصالح بلاده بنسبة ستة إلى واحد، وهو ما يعني أن الوقف الكامل للتجارة معها قد يلحق بعض الأضرار بالاقتصاد التركي. إلا أن هذا المعطى، على الرغم من صحته، لا يمكن أخذه على إطلاقه. فمن ناحية، يبدو أن اتخاذ موقف أخلاقي وإنساني وسياسي صارم هنا أكثر أهمية من التفكير في التبعات المادية المباشرة. كما أن الاقتصاد التركي يمر بمرحلة تعافٍ تدريجي ولم يعد يعاني من نفس حدة الأزمة السابقة، في ظل ظهور بعض المؤشرات الإيجابية والتصريحات المتفائلة مؤخرًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن أنقرة لديها العديد من البدائل والخيارات الاقتصادية الأخرى التي يمكن استكشافها.
هنا، من الضروري الإشارة إلى أن قرار الوقف الكامل للتجارة مع إسرائيل ينسجم تمامًا مع قرار الانضمام إلى دعوى الإبادة الجماعية، إذ لا يجوز منطقيًا أن تتهم طرفًا بارتكاب جريمة الإبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ثم تستمر في التعاون التجاري معه خلال فترة العدوان، مما قد يساهم في تقوية اقتصاده وآلته العسكرية.
لذلك، وعلى الرغم من الآثار المباشرة المحتملة لقطع العلاقات التجارية، فإن القرار المتعلق بمحكمة العدل الدولية يحمل رمزية أعمق وأثرًا أكبر، ومن المرجح أن يكون له تأثير طويل الأمد على العلاقات بين تركيا وإسرائيل. فتركيا الآن تختصم إسرائيل وتحاكمها بتهمة الإبادة الجماعية، وهو أمر لن يتغير حتى مع تغيير الحكومة الإسرائيلية الحالية وشخصياتها في المستقبل. كما أن دلالات هذا القرار وتبعاته السياسية لن تختفي بمجرد صدور حكم المحكمة، أيًا كان هذا الحكم. فضلاً عن ذلك، من المتوقع أن تلجأ إسرائيل إلى التصعيد ضد تركيا بشكل مباشر أو عبر ممارسة ضغوط أمريكية، وهو ما سيؤثر سلبًا بشكل أكبر على العلاقات بين البلدين.
بهذا المعنى، تكون تركيا، بمجرد الإعلان عن نيتها الانضمام إلى الدعوى أمام محكمة العدل الدولية، قد كسرت حاجزًا مهمًا وكبيرًا مع إسرائيل، مما يفتح الباب أمام اتخاذ خطوات إضافية ممكنة في المستقبل. إن توصيف إسرائيل بأنها "دولة إرهابية"، كما جاء على لسان الرئيس أردوغان والعديد من المسؤولين الأتراك مرارًا وتكرارًا، واتهامها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، يتطلب بالضرورة أن تكون مجمل العلاقات والمواقف التركية متسقة مع هذا التوصيف والاتجاه. وهذا يشمل قطع العلاقات الدبلوماسية بالكامل (والتي أثبتت أنها غير مفيدة في الضغط على إسرائيل)، وحظر الأجواء التركية على الطائرات الإسرائيلية، ومنع وصول أي مساعدات خارجية إلى إسرائيل عبر الأراضي التركية تحت أي مسمى، ووقف توريد مواد الطاقة من أذربيجان إلى إسرائيل أو التلويح بذلك على الأقل. فضلاً عن ذلك، فإن هذه المواقف التركية ستشكل ضغطًا على بعض الدول الداعمة لإسرائيل، وقد تكون نموذجًا يحتذى به لدول أخرى.
بناءً على ما سبق، نؤكد أنه على الرغم من تأخر القرار، فقد نقلت أنقرة موقفها من إسرائيل إلى مرحلة جديدة ومختلفة تمامًا من خلال القرارات الأخيرة، والتي نعتقد أنها ستكون لها آثار مباشرة على العلاقات بين الجانبين في المستقبل، حتى في مرحلة ما بعد نتنياهو.
وإذا كان من المتوقع حدوث بعض الأضرار الجانبية نتيجة للقرارات التجارية تحديدًا على الاقتصاد التركي، فضلاً عن بعض الضغوط السياسية المحتملة، فإن العائد على تركيا على المدى البعيد سيكون إيجابيًا، ويحمل في طياته مكاسب إستراتيجية عديدة، تبدأ من الموقف الأخلاقي النبيل والوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ، وتمر بترميم السمعة والمصداقية على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولا تنتهي بتعزيز الدور والنفوذ التركي في القضية الفلسطينية والمنطقة بشكل عام في المستقبل.
